تفسير الآية رقم (105):
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
{مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} من العرب عطف على {أهل الكتاب}، (ومن) للبيان، {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ} زائدة {خَيْرٍ} وحي {مِّن رَّبّكُمْ} حسداً لكم {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} نبوّته {مَن يَشَاءُ والله ذُو الفضل العظيم}.

ولما طعن الكفار في النسخ وقالوا إنّ محمداً يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غداً نزل: {مَا} شرطية {نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ} أي: نُزِلْ حكمها إما مع لفظها أو لا وفي قراءة بضم النون من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها {أَوْ ننسها} نؤخرها فلانَزِلَ حكمها ونرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وفي قراءة بلا همز من النسيان: أي نُنْسِكها، أي نمحها من قلبك، وجواب الشرط {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر {أَوْ مِثْلِهَا} في التكليف والثواب. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} ومنه النسخ والتبديل والاستفهام للتقرير.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} يفعل فيهما ما يشاء {وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله} أي غيره {مِنْ} زائدة {وَلِيُّ} يحفظكم {وَلاَ نَصِيرٍ} يمنع عذابه عنكم إن أتاكم؟.

ونزل لما سأله أهل مكة أن يُوسِّعها ويجعل الصفا ذهباً {أَمْ} بل أ {تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى} أي سأله قومه {مِن قَبْلُ} من قولهم {أرنا الله جهرة} وغير ذلك {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} أي يأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أخطأ الطريق الحق (والسواء) في الأصل الوسط.

{وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ} مصدرية {يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا حَسَدًا} مفعول له كائناً {مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} في التوراة {الحق} في شأن النبيّ {فاعفوا} عنهم أي اتركوهم {واصفحوا} أعرضوا فلا تجازوهم {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} فيهم من القتال {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ}.

{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ} طاعة كصلة وصدقة {تَجِدُوهُ} أي ثوابه {عِندَ الله إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم به.

{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا} جمع (هائد) {أَوْ نصارى} قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أي قال اليهود لن يدخلها إلا اليهود وقال النصارى لن يدخلها إلا النصارى {تِلْكَ} القولة {أَمَانِيُّهُمْ} شهواتهم الباطلة {قُلْ} لهم {هَاتُواْ برهانكم} حجتكم على ذلك {إِن كُنتُمْ صادقين} فيه.

{بلى} يدخل الجنة غيرهم {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي انقاد لأمره وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء فغيره أولى {وَهُوَ مُحْسِنٌ} موحد {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ} أي ثواب عمله الجنة {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة.

{وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ} معتدّ به وكفرت بعيسى {وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَئ} معتدّ به وكفرت بموسى {وَهُمْ} أي الفريقان {يَتْلُونَ الكتاب} المنزل عليهم وفي كتاب اليهود تصديق عيسى، وفي كتاب النصارى تصديق موسى والجملة حال {كذلك} كما قال هؤلاء {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي المشركون من العرب وغيرهم {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} بيان لمعنى (ذلك) أي قالوا لكل ذي دين ليسوا على شيء {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين فيدخل المحق الجنة والمبطل النار.

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} بالصلاة والتسبيح {وسعى فِي خَرَابِهَا} بالهدم أو التعطيل، نزلت إخباراً عن الروم الذين خربوا بيت المقدس أو في المشركين لما صدّوا النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن البيت {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} خبر بمعنى الأمر أي أخيفوهم بالجهاد فلا يدخلها أحد آمناً {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْىٌ} هوان بالقتل والسبي والجزية {وَلَهُمْ فِي الأخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو النار.

ونزل لما طعن اليهود في نسخ القبلة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} أي الأرض كلها لأنهما ناحيتاها {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وجوهكم في الصلاة بأمره {فَثَمَّ} هناك {وَجْهُ الله} قبلته التي رضيها {إِنَّ الله واسع} يسع فضله كل شيء {عَلِيمٌ} بتدبير خلقه.

{وَقَالُواْ} بواو ودونها أي اليهود والنصارى ومن زعم أنّ الملائكة بنات الله {اتخذ الله وَلَدًا} قال تعالى: {سبحانه} تنزيها له عنه {بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} ملكاً وخلقاً وعبيداً والملكية تنافي الولادة وعبر بـ (ما) تغليبا لما لا يعقل {كُلٌّ لَّهُ قانتون} مطيعون كل بما يراد منه وفيه تغليب العاقل.

{بَدِيعُ السموات والأرض} موجدهما لا على مثال سبق {وَإِذَا قضى} أراد {أمْراً} أي إيجاده {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فهو يكون وفي قراءة بالنصب جواباً للأمر.

{وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم {لَوْلاَ} هلا {يُكَلّمُنَا الله} بأنك رسوله {أًوْ تَأْتِيَنَآ ءَايَةٌ} مما اقترحناه على صدقك {كذلك} كما قال هؤلاء {قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم} من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} من التعنت وطلب الآيات {تشابهت قُلُوبُهُمْ} في الكفر والعناد، فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يعلمون أنها آيات فيؤمنون فاقتراح آية معها تعنُّت.

{إِنَّا أرسلناك} يا محمد {بالحق} بالهدى {بَشِيراً} مَنْ أجاب إليه بالجنة {وَنَذِيرًا} مَنْ لم يجب إليه بالنار {وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم} النار أي الكفار ما لهم لم يؤمنوا؟ إنما عليك البلاغ وفي قراءة {تسأل} بجزم (تُسْألْ) نهياً.

{وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} دينهم {قُلْ إِنَّ هُدَى الله} أي الإسلام {هُوَ الهدى} وما عداه ضلال {وَلَئِنِ} لام قسم {اتبعت أَهْوَاءَهُم} التي يدعونك إليها فرضاً {بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} الوحي من الله {مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيّ} يحفظك {وَلاَ نَصِيرٍ} يمنعك منه.

{الذين ءاتيناهم الكتاب} مبتدأ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي يقرؤونه كما أنزل والجملة حالـ (وحقَّ) نُصِبَ على المصدر والخبر {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} نزلت في جماعة قدموا من الحبشة وأسلموا {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} أي بالكتاب المؤتى بأن يحرّفه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم.

{يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} تقدّم مثله.

{واتقوا} خافوا {يَوْمًا لاَّ تَجْزِى} تغني {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} فيه {شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} فداء {وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله.

{وَ} اذكر {إِذْ ابتلى} اختبر {إِبْرَاهِيمَ} وفي قراءة {إبراهام} {رَبُّهُ بكلمات} بأوامر ونواه كلَّفه بها قيل هي مناسك الحج وقيل المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وَفرْقُ الرأس وقَلْمُ الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء {فَأَتَمَّهُنَّ} أدّاهن تامات {قَالَ} تعالى له: {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} قدوة في الدين {قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى} أولادي اجعل أئمة {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي} بالإمامة {الظالمين} الكافرين منهم دل على أنه ينال غير الظالم.

{وَإِذْ جَعَلْنَا البيت} الكعبة {مَثَابَةً لّلنَّاسِ} مرجعاً يثوبون إليه من كل جانب {وَأَمْناً} مأمناً لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره كان الرجل يلقى قاتل أبيه فيه فلا يَهِيجُهُ {واتخذوا} أيها الناس {مِن مَّقَامِ إبراهيم} هو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت {مُصَلًّى} مكان صلاة بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف، وفي قراءة {واتخذوا} بفتح الخاء خبر {وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل} أمرناهما {أن} أي بأن {طَهّرَا بَيْتِىَ} من الأوثان {لِلطَّائِفِينَ والعاكفين} المقيمين فيه {والركع السجود} جمع راكع وساجد المصلين.

{وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا} المكان {بَلَدًا آمِنًا} ذا أمن وقد أجاب الله دعاءه فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان ولا يُظْلَم فيه أحد ولا يُصَاد صيده ولا يُخْتَلَى خلاه {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} وقد فعل بنقلـ (الطائف) من الشام إليه وكان أقفر لا زرع فيه ولا ماء {مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الآخر} بدل من (أهله)، وخصهم بالدعاء لهم موافقة لقوله: {لا ينال عهدي الظالمين} {قَالَ} تعالى {وَ} أرزق {مَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ} بالتشديد والتخفيف (فأمتعه) في الدنيا بالرزق {قَلِيلاً} مدة حياته {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} أُلجئه في الآخرة {إلى عَذَابِ النار} فلا يجد عنها محيصاً {وَبِئْسَ المصير} المرجع هي
تفسير الآية رقم (127):
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
{وَ} اذكر {إِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد} الأسس أو الجُدُر {مِنَ البيت} يبنيه، متعلق (بيرفع) {وإسماعيل} عطف على {إبراهيم} يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} بناءنا {إِنَّكَ أَنتَ السميع} للقول {العليم} بالفعل.

{رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ} منقادين {لَكَ} اجعل {مِنْ ذُرِّيَّتِنَا} أولادنا {أُمَّةً} جماعة {مُّسْلِمَةً لَّكَ} (ومن) للتبعيض وأتى به لتقدُّم قوله: {لا ينال عهدي الظالمين} {وَأَرِنَا} علّمنا {مَنَاسِكَنَا} شرائع عبادتنا أو حجنا {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعاً وتعليماً لذرّيتهما.

{رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ} أي أهل البيت {رَسُولاً مّنْهُمْ} من أنفسهم وقد أجاب الله دعاءه بمحمد صلى الله عليه وسلم {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتك} القرآن {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب} القرآن {والحكمة} أي ما فيه من الأحكام {وَيُزَكّيهِمْ} يطهرهم من الشرك {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الغالب {الحكيم} في صنعه.

{وَمَنْ} أي لا {يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم} فيتركها {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} جهل نفسه أنها مخلوقة لله يجب عليها عبادته أو استخف بها وامتهنها {وَلَقَدِ اصطفيناه} اخترناه {فِي الدنيا} بالرسالة والخُلَّة {وَإِنَّهُ فِي الأخرة لَمِنَ الصالحين} الذين لهم الشئدرجات العلى.

واذكر {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} انقد لله وأخلص له دينك {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين}.

{ووصى} وفي قراءة {أوصى} {بِهَا} بالملة {إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} بنيه قال {يابنى إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} دين الإسلام {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} نَهيٌ عن ترك الإسلام وأمْرٌ بالثبات عليه إلى مصادفة الموت.

ولما قال اليهود للنبي ألست تعلم أنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية نزل: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} حضوراً {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ} بدل من {إذ} قبله {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى} بعد موتي؟ {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} عَدَّ إسماعيل من الآباء تغليبٌ ولأن العم بمنزلة الأب {إلها واحدا} بدل من {إلهك} {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} و(أم) بمعنى همزة الإنكار أي لم تحضروه وقت موته فكيف تنسبون إليه ما لا يليق به.

{تِلْكَ} مبتدأ والإشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما وأُنِّث لتأنيث خبره {أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} سلفت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من العمل أي جزاؤه واستئناف {وَلَكُمْ} الخطاب لليهود {مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كما لا يسألون عن عملكم والجملة تأكيد لما قبلها.

{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} (أو) للتفصيل وقائل الأوّلـ (يهود المدينة) والثاني (نصارى نجران) {قُلْ} لهم {بَلِ} نتبع {مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} حال من {إبراهيم} مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيم {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.

{قُولُواْ} خطاب للمؤمنين {ءَامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم} من الصحف العشر {وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ} أولاده {وَمَا أُوتِىَ موسى} من التوراة {وَعِيسَى} من الإنجيل {وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ} من الكتب والآيات {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كاليهود والنصارى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.

{فَإِنْ ءَامَنُواْ} أي اليهود والنصارى {بِمَثَلِ} (مثل) زائدة {مَا ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ} عن الإيمان به {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} خلاف معكم {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} يا محمد شقاقهم {وَهُوَ السميع} لأقوالهم {العليم} بأحوالهم، وقد كفاه إياهم بقتل قريظة ونفي النضير وضرب الجزية عليهم.

{صِبْغَةَ الله} مصدر مؤكد لـ (آمنا) ونصبه بفعل مقدر أي صبغنا الله، والمراد بها دينه الذي فطر الناس عليه لظهور أثره على صاحبه كالصبغ في الثوب {وَمَنْ} أي لا أحد {أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} تمييز {وَنَحْنُ لَهُ عابدون} قال اليهود للمسلمين نحن أهل الكتاب الأول وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب ولو كان محمد نبياً، لكان منا فنزل:

{قُلْ} لهم {أَتُحَاجُّونَنَا} تخاصموننا {فِي الله} أن اصطفى نبياً من العرب {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} فله أن يصطفي من عباده من يشاء {وَلَنَا أعمالنا} نُجَازَى بها {وَلَكُمْ أعمالكم} تُجَازَوْنَ بها فلا يبعد أن يكون في أعمالنا ما نستحق به الإكرام {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} الدين والعملَ دونكم فنحن أولى بالاصطفاء والهمزة للإنكار والجمل الثلاث أحوال.

{أَمْ} بل أ {تَقُولُونَ} بالتاء والياء {إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى قُلْ} لهم {ءَأنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} أي الله أعلم وقد برَّأ منهما إبراهيم بقوله: {ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانياً} [67: 3] والمذكورون معه تبعٌ له {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ} أخفى عن الناس {شهادة عِندَهُ} كائنة {مِنَ الله}؟ أي لا أحد أظلم منه وهم اليهود كتموا شهادة الله في التوراة لإبراهيم بالحنيفية {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد لهم.

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تقدّم مثله.

{سَيَقُولُ السفهاء} الجهال {مِنَ الناس} اليهود والمشركين {مَا ولاهم} أي شيء صرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} على استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس؟ والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب {قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب} أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء لا اعتراض عليه {يَهْدِى مَن يَشَآء} هدايته {إلى صراط} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} دين الإسلام أي ومنهم أنتم دل على هذا.

{وكذلك} كما هديناكم إليه {جعلناكم} يا أمّة محمد {أُمَّةً وَسَطًا} خياراً عدولاً {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس} يوم القيامة أنَّ رسلهم بلَّغتهم {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} أنه بلغكم {وَمَا جَعَلْنَا} صيرنا {القبلة} لك الآن الجهة {التي كُنتَ عَلَيْهَا} أولاً وهي الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إليها فلما هاجر أُمِرَ باستقبال بيت المقدس تألُّفا لليهود فصلى إليه ستة أو سبعة عشر شهراً ثم حُوِّلَ {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} علم ظهور {مَن يَتَّبِعُ الرسول} فيصدقه {مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} أي يرجع إلى الكفر شكا في الدين وظنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره وقد ارتد لذلك جماعة {وَإِن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: وإنها {كَانَتْ} أي التولية إليها {لَكَبِيرَةً} شاقة على الناس {إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} منهم {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل {إِنَّ الله بالناس} المؤمنين {لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} في عدم إضاعة أعمالهم و(الرأفة) شدّة الرحمة وقُدّم الأبلغ للفاصلة.

{قَدْ} للتحقيق {نرى تَقَلُّبَ} تصرُّف {وَجْهِكَ فِي} جهة {السماء} متطلعا إلى الوحي ومتشوّقاً للأمر باستقبال الكعبة وكان يودّ ذلك لأنها قبلة إبراهيم ولأنه أدْعَى إلى إسلام العرب {فَلَنُوَلّيَنَّكَ} نحِّولنَّك {قِبْلَةً ترضاها} تحبها {فَوَلّ وَجْهَكَ} استقبل في الصلاة {شَطْرَ} نحو {المسجد الحرام} أي الكعبة {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} خطاب للأمة {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} في الصلاة {شَطْرَهُ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي التولي إلى الكعبة {الحق} الثابت {مِّن رَّبّهِمُ} لما في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يتحول إليها {وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} بالتاء أيها المؤمنون من امتثال أمره وبالياء أي اليهود من إنكار أمر القبلة.

{وَلَئِنِ} لام قسم {أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلّ ءَايَةٍ} على صدقك في أمر القبلة {مَّا تَبِعُواْ} أي لايتبعون {قِبْلَتَكَ} عناداً {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} قطع لطمعه في إسلامهم وطمعهم في عوده إليها {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أي اليهود قبلة النصارى وبالعكس {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} التي يدعونك إليها {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} الوحي {إِنَّكَ إِذَاً} إن اتبعتهم فرضاً {لَّمِنَ الظالمين}.

{الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ} أي محمداً {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} بنعته في كتبهم قال ابن سلام: (لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي لمحمد أشدّ) {وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق} نعته {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هذا الذي أنت عليه.
کوئی تبصرے نہیں:
ایک تبصرہ شائع کریں